قضايا وآراء

كيف دفع المثقفون في مصر فاتورة انقلابهم؟

طارق الزمر
"كانوا يظنون أن السلطة الجديدة ستفتح لهم أبوابا من النفوذ"- أ ف ب
"كانوا يظنون أن السلطة الجديدة ستفتح لهم أبوابا من النفوذ"- أ ف ب
شارك الخبر
 من بين أكثر المشاهد التي بقيت عالقة في ذاكرتي ونحن بصدد ذكرى ثورة يناير، تلك الوجوه التي تصدّرت الشاشات في الشهور السابقة للانقلاب، تحمل عناوين "الخلاص" و"الإنقاذ"، وتدّعي امتلاك الحكمة بينما تدفع البلاد بخطى ثابتة نحو الهاوية. كثيرٌ من المثقفين -شعراء وصحفيون وكتّاب وروائيون وباحثون- اندفعوا في موجة عداء غير مسبوقة ضد أول رئيس مدني منتخب، وضد التجربة الديمقراطية الوليدة، حتى بدا وكأنهم يؤسّسون لحلف جديد: حلف الثقافة في مواجهة إرادة الشعب.

ما إن وقع الانقلاب، حتى تصدّر بعضهم المشهد، في صلف المنتصرين، متحدثين عن "تصحيح المسار"، و"عودة الدولة"، و"إنقاذ الجمهورية". كانوا يظنون أن السلطة الجديدة ستفتح لهم أبوابا من النفوذ، وستمنحهم ما حرمهم منه كل عهود الاستبداد السابقة، وأن التحالف مع القوة المسلحة سيعيد للمثقف مكانته ويضمن له موقعا في المشهد الجديد. غير أن الأيام كانت أصدق من كل تلك الأوهام.

المفارقة أن المثقفين الذين انحازوا للانقلاب من منطلق الخوف على "الدولة المدنية" رأوا بأعينهم بعد شهور كيف ذابت تلك الدولة في قبضة عسكرية صريحة، وكيف تحولت المؤسسات التي كانوا يدافعون عنها إلى أذرع أمنية. البعض سكت خجلا، والبعض صمت خوفا، والبعض الثالث واصل المكابرة بعنادٍ لا يليق بمثقف

بعد أسابيع فقط من 3 يوليو، بدأت الملامح الأولى للفاتورة التي سيدفعها المثقف المصري تتكشف بلا رحمة. فالعسكر لا يرون في المثقف شريكا، بل موظفا، ولا يتعاملون مع الفكر بوصفه قيمة مستقلة، بل أداة تستخدم عند اللزوم ثم تُلقى جانبا. هكذا بدأ كثير من الذين رقصوا ابتهاجا بالانقلاب يتجرّعون ثمار اختيارهم: هامشٌ أضيق مما توقّعوا، ومساحة حرية تقلصت حتى اختنقت، ووطنٌ يسير مسرعا نحو القمع الشامل الذي لا يميز بين إسلامي وليبرالي، بين يساري وناصري، بين ثائر ومبرر للثورة المضادة.

أذكر جيدا كيف صعقت بعض الوجوه التي ملأت شاشات يوليو عندما أدركت أن النظام الجديد لا يريد نقدا ولا نصيحة ولا حتى تأييدا مشروطا، بل يريد "تسليما كاملا" بلا أسئلة أو تحفظات. كانوا يظنون أنهم جزء من "مجلس حكماء" ينتظرهم بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب، وأن النظام الجديد سيحترم من وقف معه في ذروة الصراع. لكنهم وجدوا أنفسهم مجرد أصوات تُستخدم لمرحلة ثم تُرمى عند أول اختلاف.

تلك اللحظة كانت لحظة الحقيقة: حين اكتشف المثقف أنه لم يكن شريكا في رسم المستقبل، بل أداة في معركة استعادة الماضي. فما إن انتهى دورهم في تهيئة الوعي للانقلاب حتى بدأت ماكينة القمع في الدوران، تلتهم الجميع دون استثناء. توقفت البرامج، أُغلقت الصحف، أُقصي بعض أشهر المذيعين الذين حرّضوا ضد الثورة، وتعرض كثيرون للتخويف والمنع والملاحقات، بل كان بعضهم ضحية "الإجراءات" نفسها التي طالبوا بتطبيقها ضد خصومهم.

والمفارقة أن المثقفين الذين انحازوا للانقلاب من منطلق الخوف على "الدولة المدنية" رأوا بأعينهم بعد شهور كيف ذابت تلك الدولة في قبضة عسكرية صريحة، وكيف تحولت المؤسسات التي كانوا يدافعون عنها إلى أذرع أمنية. البعض سكت خجلا، والبعض صمت خوفا، والبعض الثالث واصل المكابرة بعنادٍ لا يليق بمثقف. لكن القبول بالاستبداد لم يشفع لأحد، فحُكم الفرد لا يصنع حلفاء دائمين، بل أدوات متغيرة لا يدوم منها شيء.

تزامن كل ذلك مع مشهد مؤلم آخر: انسحاب المثقف من دوره التاريخي. لم يعد ضميرا للأمة، ولا عقلا يفكر خارج الصندوق، ولا شاهدا على الحقيقة. صار جزءا من ماكينة تجميل القبح، وتبرير البطش، وتفسير الفشل. بعضهم أصبح يتلقى التعليمات من غرف مظلمة قبل الظهور على الشاشات، وبعضهم كتب مقالاته تحت رقابة مباشرة، وبعضهم هاجر أو اكتفى بالصمت كي يحافظ على مساحة ضيقة من الأمان الشخصي.

لكن الحقيقة التي يجب أن تُقال بصراحة: المثقف الذي منح شرعية رمزية للانقلاب، كان جزءا من إجهاض فرصة تاريخية لن تتكرر بسهولة. فالأنظمة العسكرية لا تحتاج إلى تبرير، لكنها كانت تريد وجها ثقافيا يخفف من صدمة الانقلاب أمام الناس. وقد أدى بعض المثقفين هذا الدور طوعا، دون إدراك لثمنه الحقيقي.

بعد كل هذه السنوات، بات واضحا أن الذين دفعوا إلى الانقلاب خسروا أكثر بكثير مما خسره من عارضوه. فالسلطة التي دعموا عودتها لم تُعِد لهم دورهم، بل ألغت المجال العام كله، ولم يعد في مصر منذ 2013 حتى اللحظة مثقفٌ واحد قادر على مخاطبة الناس خارج ما تسمح به الأجهزة

ومع مرور السنوات، لم يبق من ذلك التوهّج الإعلامي سوى الندم، واعترافات بعضها صريح وبعضها مضمر. فالكثير منهم اكتشف بعد فوات الأوان أن عداءه للإخوان كان أعمى، وأنه سمح لغضبه من تيار سياسي واحد أن يُعمّد مستقبل البلاد بقبضة عسكرية تحاصر الجميع. كانوا يظنون أن المعركة مع "الإسلاميين"، فإذا بهم يكتشفون أن المعركة كانت مع الحرية ذاتها.

لقد دفع المثقفون فاتورة الانقلاب على مستويين: الفاتورة الأولى سياسية: حين انكمشت الحياة العامة، وأصبحت الثقافة إحدى ضحايا عسكرة الدولة، وعاد الخوف إلى الندوات وقاعات الجامعة والمقالات. والفاتورة الثانية أخلاقية: حين انهارت مصداقية المثقف أمام جيل جديد رأى بأم عينيه كيف خان رموز الثقافة ضميرهم المهني وانحازوا للسلطة ضد الحرية.

واليوم، بعد كل هذه السنوات، بات واضحا أن الذين دفعوا إلى الانقلاب خسروا أكثر بكثير مما خسره من عارضوه. فالسلطة التي دعموا عودتها لم تُعِد لهم دورهم، بل ألغت المجال العام كله، ولم يعد في مصر منذ 2013 حتى اللحظة مثقفٌ واحد قادر على مخاطبة الناس خارج ما تسمح به الأجهزة.

وربما كان الدرس الأهم: أن المثقف الذي يتخلى عن وظيفته التاريخية -الدفاع عن الحرية- يتحول إلى مجرد رقم في أجهزة الدعاية، وأن الاستبداد لا يحمي أحدا، بل يبتلع الجميع بلا استثناء.

هكذا دفع المثقف فاتورة الانقلاب.. فاتورة بدأت بالتصفيق وانتهت بالصمت. وبين التصفيق والصمت ضاعت مصر في سنوات مظلمة، كان يمكن أن تكون غير ذلك تماما لو حافظ المثقف على دوره الحقيقي: ضمير الأمة لا مُبرر القمع.
التعليقات (0)