أفكَار

هل يستطيع حزب العدالة والتنمية إعادة بناء نفسه من جديد؟ أطروحة مختلفة

 المغرب مثله مثل بقية الدول العربية، لا يشعر بأي ضغط دولي يلزمه بأن يتجه نحو الديمقراطية، ويرى على العكس من ذلك أن السياسة الدولية والإقليمية تدعم خروج الإسلاميين من المشهد بشكل كامل..
المغرب مثله مثل بقية الدول العربية، لا يشعر بأي ضغط دولي يلزمه بأن يتجه نحو الديمقراطية، ويرى على العكس من ذلك أن السياسة الدولية والإقليمية تدعم خروج الإسلاميين من المشهد بشكل كامل..
شارك الخبر
ما من شك أن الدينامية السياسية التي أنتجها حزب العدالة والتنمية المغربي بعد نكسته الانتخابية، أضحت تستقطب نظر الباحثين والمراقبين، وصار سؤال مستقبل الحزب يطرح من جديد، بل صار سؤال إمكان خروجه من أزمته وقدرته على بناء ذاته من جديد وتصدر المشهد السياسي المغربي سؤالا مثارا من أكثر من جهة، لاسيما بعد أن عبر الأمين العام للحزب بأنه يتطلع أن يتجاوز حزبه تحسين التموقع السياسي إلى قيادته وتصدر المرتبة الأولى في الاستحقاق الانتخابي.

ضمن سياق الرصد والتحليل والاستشراف لمستقبل الحزب، نشر الباحثان البريطاني في العلوم السياسية روي مكارثي (‪‏ Rory McCarthy) والمغربي سليم حمينات، مقالة بمجلة الشرق الأوسط (Middle East Journal) تحت عنوان: "هل يستطيع حزب العدالة والتنمية إعادة بناء نفسه؟" حاولا فيها الإجابة عن سؤالين مهمين: أولهما، أسباب النكسة الانتخابية في الانتخابات التشريعية الأخيرة(2021)، وثانيهما قدرة الحزب على إعادة بناء ذاته.

في واقع الأمر، يجمع المقال خلاصة ما قدمته من نقد طيلة أكثر من ثلاث سنوات، والذي كان موضوع مقالات عدة كتبتها بشكل متوال في "عربي21" وصحف أخرى، فضلا عن مقابلة مع الباحث  روري مكارثي أحال إلى كثير من عناصرها،  خاصة ما يتعلق  بنقد رؤية ابن كيران للنهوض بالحزب، والتي تم تلخيصها في العودة للمرجعية الإسلامية، بوصفها سبب انتصار العدالة والتنمية في المسارات السابقة، ودعم المقاومة الفلسطينية، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تصحيح  تمثلات الجمهور عن "تطبيع الحزب" بعد توقيع رئيس الحكومة السابق  سعد الدين العثماني للاتفاق الثلاثي، ثم تصليب مواقف الحزب السياسية عبر تكثيف النقد لحكومة عزيز أخنوش.

المقال وقف طويلا عند أزمة الكاريزما داخل العدالة والتنمية، وصعوبة الانتقال الجيلي داخل القيادة، والمخاوف الجدية لتسيير الحزب بالرهان على الشخصنة وعقلية ما قبل2011، مما كنا قد نبهنا إليه في أكثر من مقال منشور، لكن، مع ذلك، فما تم تحصيله من أفكار نقدية عن تجربة العدالة والتنمية، يفتقد لملاحظات أخرى جديدة، صار لها جديتها في استشراف مستقبل الحزب.

ولقد أحسنت صحيفة "عربي21" حين أتاحت الفرصة لإحدى قيادات العدالة والتنمية (د. عبد العلي حامي الدين) أن يناقش مقالة الباحثين، ويقدم بشأنها ملاحظات نقدية من الداخل، تستحضر جملة من العناصر التي لم تحظ باهتمام كبير في المقالة البحثية، منها أزمة التمثيلية في المجتمع المغربي، ونهاية رصيد دينامية الربيع العربي، وتأثر العلاقة بين الحركة والحزب، وتصدع الصف الداخلي للحزب.

في مناقشة أسباب الهزيمة الانتخابية

تقدم الورقة البحثية ومناقشة الدكتور حامي الدين لها مجموعة من الأسباب التي تفسر نكسة العدالة والتنمية، فبينما تلتمس مقالة روري مكارثي ـ سليم حميمنات على المواقف الثلاثة التي دمرت العدالة والتنمية سياسا (التطبيع، فرنسة التعليم، القنب الهندي)، يضيف الدكتور حامي الدين أسبابا ترتبط بالذات الحزبية (تصدع الحزب الداخلي، وأزمة العلاقة بين الحزب والحركة)، وأسبابا أخرى موضوعية لها علاقة بالمحيط الدولي والإقليمي، وتحديدا نهاية رصيد دينامية الربيع العربي، وأزمة النسق  السياسي بالمغرب.

في تقديري الحجة التي ينبغي الاستثمار في توضيحها، ترتبط بمدى قدرة القيادة الكاريزما على التعاطي مع أسئلة المرحلة، خاصة وأن عقليتها السياسية، تكونت بين لحظتين: لحظة المواجهة، ولحظة تأصيل المشاركة السياسية والتكيف مع استحقاقاتها، في حين تتسم المرحلة الراهنة بتحديات جديدة، تتعلق باستعادة الشرعية لدى الجمهور، لا مواجهة السلطة القائمة، مما يستدعي معه إحداث تغيير جدري في تفكير الإسلاميين وأجيالهم القيادية، ونموذج الفكري والسياسي وشكل استيعابهم للوضع الدولي والإقليمي.
في واقع الأمر، تبدو هذه الأسباب كلها وجيهة ودالة وذات علاقة بالموضوع، لكن الذي ينقص التحليل في تقديري هو القدرة على تركيبها وفق نسق تفسيري ناظم، فسياق الوقائع، يقول بأن نتائج الإعلان عن انتخابات 2016 التشريعية كانت محكومة بأزمة مع الدولة، تجلت من جهتها باستنكار إعلان الحزب لنتائج الانتخابات قبل الجهة الرسمية الموكول لها ذلك، وظهور مؤشرات على ممانعة منح ابن كيران ولاية حكومة ثانية (البلوكاج)، وإعفاء ابن كيران من مهمته في رئاسة الحكومة، وإدخال الاتحاد الاشتراكي ضدا على إرادة الحزب،  وتسمية وزراء في مواقع سيادية وصفهم الأمين العام بأنهم خصوم للعدالة والتنمية (عبد الواحد لفتيت)، وتجلت من جهة العدالة والتنمية، بالإصرار على أن تشكل الحكومة وفقا لنتائج الانتخابات، ورفض دخول الاتحاد الاشتراكي إلى الحكومة، والدخول في تصعيد إعلامي لفضح ديناميات البلوكاج لاستدرار ضغط جماهيري يعيد التوازن إلى دينامية التفاوض لتشكيل الحكومة.

نعم يمكن أن نجادل كثيرا في الأسباب الذاتية لهزيمة العدالة والتنمية، وبشكل خاص ما يرتبط بمواقفه السياسية في مرحلة سعد الدين العثماني، وكيف أضعفت الحزب، وأضرت بشعبيته السياسة،  ويمكن أن  نزيد على ذلك أزمة الانقسام الداخلي على خلفية صراع القيادات وانعدام الثقة فيما بينها، وأيضا العلاقة مع حركة التوحيد والإصلاح، والتي تأثرت هي الأخرى بالموقف من التطبيع والقنب الهندي ولغة التدريس، لكن، هذه الملاحظات جميعها ترجع في حقيقة الأمر إلى مرحلة سابقة، أي أنها في المحصلة انتقادات ما قبل سنة 2024، وهي بالمناسبة لم تثر إلى اليوم أزمة العلاقة مع الدولة، وسببها وكيفية تدبيرها.

يحمل تقييم الحزب لمسار اندلاع أزمته، حضور فكرة الأزمة مع الدولة، ولطالما طرح هذا السؤال على الأمين العام السيد عبد الإله بنكيران، فكان الجواب، أنه لا يهمه موقف الدولة من الحزب، بقدر ما يهمه موقف الحزب من الدولة، وطالما انتقد موقفها من الحزب على الرغم من الخدمات الجليلة التي قدمها الحزب إليها وإلى الوطن، فكان دائما يرجع الفضل إلى الملك والحزب في خروج المغرب من السيناريو المجهول الذي كان حراك 20 فبراير سيقود إليه.

مؤشرات الأزمة مع الدولة، كثيرة ومطردة، ولم  يرد أي متغير يسمح بالحديث عن تحول ولو جزئي فيها، فمسار البلوكاج والإعفاء،  وتجريد الحزب من حلفائه من القوى الديمقراطية (إخراج وزراء  وقيادات التقدم والاشتراكية من الحكومة ثم خروجه بالكلية منها)، ثم إضعاف الحزب، وإجباره في سبيل التكيف على اتخاذ قرارات مؤلمة تمس هويته ومرجعيته وقناعاته المبدئية، ثم عدم كسبه لأي انتخابات تشريعية جزئية في عهد الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، واستمرار الحملة الإعلامية ضده وضد قيادته، كل ذلك، يؤكد بأن الأزمة لا تزال مستمرة، ولم يبذل الحزب أي مجهود لتحليلها والنظر في خيارات للجواب عن التحدي الذي تشكله.

بعيد ثلاث سنوات من المؤتمر الاستثنائي لحزب العدالة والتنمية الذي أعاد عبد الإله بنكيران إلى القيادة، طرح إشكال أزمة العلاقة مع الدولة، وكانت الخيارات المطروحة: إما أن تتم الإجابة بـ (نعم)، وفي هذه الحالة، يتطلب البحث عن سبب الأزمة في قيادة الحزب التي أدارت المرحلة وتسببت في الأزمة مع الدولة، أو في تحليل سياسة الحزب وموقف الدولة منها، وفي الحالتين معا لا مخرج من الأزمة إلا بتغيير القيادة، أو بالمزيد من تصليب مواقف الحزب، بما قد يصل إلى المطالبة بتغيير دستوري، أو حتى رفض المشاركة في العملية السياسية ما دامت شروطها لا تتماشى مع متطلبات التقدم  في المسار الديمقراطي.

أما إن كانت الإجابة بالنفي (لا وجود لأزمة مع الدولة)، فينبغي تفسير عدد من المؤشرات التي تخرج عن نسق هذه الفرضية، ومنها أن حالة البلوكاج الشامل، ونزول حزب فاز بحوالي 125 مقعدا، إلى الرتبة الثامنة، وعدم قدرته على تأمين أي نجاح انتخابي في أي انتخابات تشريعية جزئية، منذ أكثر من خمس سنوات.

لقد بين استقراء خطاب قيادة الحزب منذ المؤتمر الاستثنائي للحزب (2021) تغييب سؤال الأزمة مع الدولة، حتى والجميع مستشعر لوجودها ولتفاقم حدتها، ويبذل الأمين العام ـ كما هي عادته ـ مجهودا في إثبات تشبث الحزب بالملكية، ودفاعه المستميث عنها، وحرصه على الاستقرار في ظلها، واستعداده الدائم للقيام بنفس الدور الذي قام به في حراك 20 فبراير في الوقوف إلى جانبها لتأمين الاستقرار وعدم الذهاب بالمغرب إلى المجهول ويظهر ذلك بوضوح في الكيفية التي تواصل بها بعد اندلاع حراك جيل (ز)،  بما يكرس القناعة بأن بنكيران يحاول إعادة إنتاج خطاب ما قبل 2011، في الوقت الذي تتعامل معه الدولة وفقا لحصيلة سياسته ومواقفه ما بين 2012 و2021، فبينما يراهن بنكيران على ثقة الدولة فيه، ويشير إلى مواقفه قبل 2011، تبعث  الدولة إشارات أخرى معاكسة، بكونها لا تريد لهذا الحزب أن يتقدم في ظل وجود بنكيران على رأس قيادته.

في مناقشة إمكان استعادة الحزب للمبادرة

تلخص المقالة البحثية كما سبقت الإشارة ما كتبناه حول وصفة بنكيران لإعادة بناء الحزب، والتي لخصها في العودة للمرجعية الإسلامية لاستعادة الروح التي كانت سببا في انتصاراته، وتصليب مواقف الحزب السياسية حتى يتصالح معه الجمهور وتعود كل قياداته الغاضبة للحزب بشكل تلقائي من غير حوار داخلي، ثم التركيز على قضايا الأمة، وبخاصة قضية مقاومة التطبيع لمحو "عار" التطبيع الذي لحق بالحزب من جراء توقيع الاتفاق الثلاثي، الذي باشره رئيس الحكومة يومها الدكتور سعد الدين العثماني.

تجليات هذه الأبعاد ظهرت في قيام الأمين العام بنفسه بالوظيفة الدعوية من خلال إطلاق دروس دينية تحت عنوان "آية استوقفتي" واعتباره لها أداة لإعادة التذكير بالقيم المرجعية الأساسية التي من شأنها النهوض بالحزب، ثم خوض معارك سياسية قوية ضد حكومة عزيز اخنوش لاسيما معارك تضارب المصالح والنفوذ، ثم إطلاق دينامية شعبية  للتضامن مع غزة ورفع الصوت عاليا من أجل إيقاف مسلسل التطبيع، ومحاولة إنتاج خطاب متوازن بخصوص ضلوع الحزب في التطبيع، وبيان التمايز بين موقف الدولة وموقف الحزب، والاستراتيجية التي ينبغي سلوكها لتدبير هذا التمايز.

هذه الأبعاد الثلاثة بتجلياتها المختلفة تبين بأن الحزب اختار الرهان على الكاريزما القيادية بديلا عن حوار داخلي موضوعي يبين سبل تجاوز الأزمة وأيضا وصفة النهوض بالحزب وتعزيز أدواره السياسية من جديد.

الفرق بين الأمس واليوم، أن الكاريزما بالأمس ارتبطت في مزاج العدالة والتنمية بشخصية قادرة على أن تعيد الحزب إلى سكة الانتصارات، وكانت الحجة، مواجهته السياسية القوية للأصالة والمعاصرة منذ تأسيس "حركة لكل الديمقراطيين"، والانتصار الانتخابي الكاسح في كل من 2011 و2015 و2016، لكن اليوم حصل تطور مهم في مستوى هذه الكاريزما، أذ أظهر خطابها أنها أصبحت بديلا عن الخصائص العامة للتجربة، وبشكل خاص، طابعها الجماعي المؤسسي، وخضوعها لمراجعات فكرية جماعية تراكمية، وانضباطها لآلية الديمقراطية الداخلية. فخطاب القيادة الكاريزمية، صار يؤسس لفكرة أنها هي الحزب، تاريخا وفكرا وممارسة، ولم يعد من هذه خصائص التجربة إلا خاصية واحدة لم تستطع القيادة إلى الآن أن تروضها، وهي الديمقراطية الداخلية، أما التاريخ، وتطور الأفكار داخل التجربة، فهي التي صنعته، وهي التي وجهت مساره!

في واقع الأمر، يعود هذا التحليل لسنتين مضتا لم يتم فيهما طرح هذا الإشكال للنقاش ولا معالجته، فوصفة بنكيران للنهوض بالحزب، تعرضت كما توقعت تماما لنكسة، ففشل خيار "تولي القيادة مهمة الخطاب الوعظي" لاستعادة هوية الحزب ومرجعيته، وفشل رهان استعادة قيادات الحزب من خلال تقوية مواقف الحزب، حتى وهو يخوص أقسى المعارك السياسية حول تضارب المصالح، فباستثناء لحسن الدوادي ومحمد يتيم اللذين كانا أقرب إلى منطق التجميع منه إلى أخذ المسافة، لم يعد إلى اليوم أحد من القيادات، بل تسبب خطاب الأمين العام، في نفرة آخرين لم يكونوا بعيدين (محمد نجيب بوليف، عبد العزيز أفتاتي)، وظهر في المؤتمر العادي للحزب عسر الشرعية، بعد أن عبر أغلب أعضاء قيادات الأمانة العامة عن الرغبة في قيادة جديدة.

والسبب في تقديري أن قيادة الحزب لم تعتن بسؤال أزمة العلاقة مع الدولة، ربما تقديرا منه  أن الجواب عنه يطرح سؤال تجديد القيادة، واستمرت في خطاب ما قبل 2011 الذي يوصي بالملكية خيرا، والعودة لخطاب "الحزب المساند للملكية وقت الأزمات" والذي رأيناه بقوة مع حراك جيل (ز)، وقد لاحظ المراقبون، أن الأمين العام للحزب، لم يحضر لأي لقاء دعي إليه من قبل رئيس الحكومة، إذ كان ينيب عنه من يحضر إليه، إلا اللقاء الذي دعا إليه وزير الداخلية تنفيذا لتعليمات ملكية بحضور مستشاري الملك ووزير الخارجية حول  تحيين مقترح المغرب للحكم الذاتي، إذ يحرص بنكيران التفريق بين بين دعوة الملك ودعوة رئيس الحكومة أو أحد وزرائها.

ثمة مؤشر آخر دال، ففي  إحدى الخطابات التواصلية، أثار بنكيران قضية جديرة بالتأمل، وتسمح بفهم جزء من المشكلة، ففي معرض عودته لتحليل البلوكاج الذي تعرض له حزبه، قال بصريح العبارة، إنه تعرض لمؤامرة، وإنه كان عليه أن يكمل مهمته، وهي إشارة تعكس جزءا من الخلفية التي تدير بها الكاريزما القيادية دفة الحزب، وتمنعه من مواجهة الإشكالات الجدية، فحسب هذا الخطاب الإعفاء ليس لحظة لتأمل أزمة العلاقة مع الدولة، بل لحظة طرح سؤال جدية الدولة في الإصلاح، بحكم أن قضية إكمال المهمة، هي ليست مرتبطة فقط بـ "بلوكاج حزبي"، وإنما أيضا باختصاص دستوري مارسه الملك.

تطرح سردية بنكيران ثلاثة تحديات مفارقة لا بد من إثارتها بهذا الخصوص، الأول يتعلق بتناسق السردية، خاصة وأن بنكيران قال في أكثر من مرة بأنه جهز استقالته وكان ينوي تقديمها للملك، مما يعني بأن الإعفاء بوصفه اختصاصا ملكيا لم يكن إلا تحصيل حاصل. والثاني، إذا استوت الدولة والأحزاب في إسقاط الحزب، بتآمر الأحزاب وعدم جدية الدولة، فما الجدوى من استدعاء خطاب ما قبل 2011 في التعاطي مع الدولة، إذ يرمز ذلك إلى أن خطاب القيادة يحمل معه كثيرا من التناقض، والثالث، أن هذه الرواية، تطرح سؤال أزمة العلاقة مع الدولة، والقيادة الحالية تحرص على عدم إثارتها للنقاش الداخلي.

فرضية الوضع الدولي والإقليمي.. أو فرضية الطلب على الديمقراطية

تبدو هذه القضية مغيبة تماما من خطاب الحزب، مع أن استقراء تاريخ الإسلاميين، يبين بأن أدوارهم السياسية في السياسة، أو خمودهم في مسرحها، مرتبط أساسا بتحولات الوضع الدولي والإقليمي، وموقع الديمقراطية ضمن هذا الوضع، فحيثما كان التوجه الدولي داعما للتحولات السياسية في الوطن العربي، يتبرر دور الإسلاميين وتوسع وزنهم السياسي، وحيثما قل الطلب على الديمقراطية، وحل محله دعم الأنظمة الاستبدادية، تراجع وضعهم وحل الخمود محل "الانبعاثة".

والمفارقة أن البيت الأبيض الأمريكي نشر وثيقة الأمن الاستراتيجي القومي، وكان من مشمولاتها أن واشنطن غير معنية بفكرة الضغط على الدول من أجل الديمقراطية، وأنها اختارت بدلا عن ذلك أن تتبع المصلحة القومية الأمريكية أين اتجهت، ولا تبالي في ذلك أن تدعم أي نظام سياسي ديمقراطيا كان أو شبه سلطوي أو استبداديا، ما دامت واشنطن تكسب من العلاقة معه مصالح استراتيجية وازنة.

لحد الآن، تبقى حجة بعض إسلاميي العدالة والتنمية وما يعاكسها نظرية، في انتظار ما سيحصل في الاستحقاق الانتخابي المقبل، لكن مؤشرات النقاش حول القوانين الانتخابية، ورفض وزير الداخلية عبد الواحد لفتيت لكل تعديلات العدالة والتنمية، يبين بأن الدولة التي لا تستشعر أي ضغط عليها للتقدم في الديمقراطية، ترى في المدى القريب المرتبط بإجراء الانتخابات التشريعية المقبلة (صيف العام المقبل) أن الزمن السياسي للاستجابة للضغط الديمقراطي لا يزال ممتدا، وأن الانتخابات المقبلة، على الأقل، ستكون مستثناة من ذلك.
ملخص هذه الرؤية، أن المغرب مثله مثل بقية الدول العربية، لا يشعر بأي ضغط دولي يلزمه بأن يتجه نحو الديمقراطية، ويرى على العكس من ذلك أن السياسة الدولية والإقليمية تدعم خروج الإسلاميين من المشهد بشكل كامل، مما يعني بأن استراتيجية تقليص أدوراهم أو تسقيف تقدمهم السياسي، أمر لا يتعارض مع تحولات الوضع الدولي والإقليمي.

بعض الإسلاميين داخل العدالة والتنمية، يتصورون أن استحقاق الحكم الذاتي في الصحراء يمكن أن يشكل حافزا دوليا وإقليميا لإحداث تقدم في السياق الانتخابي الراهن، خاصة وأن نص قرار مجلس الأمن 2797  يتحدث عن حكم ذاتي "حقيقي"، وهو ما يستلزم تقديم مقترح يقوم أساسا على فكرة الدمقرطة، وأنه من الضروري أن يوازيه فعل مماثل في بقية التراب الوطني حتى لا يحدث الفرز والتمايز، ويصير سببا للطلب على الحكم الذاتي من قبل جهات المغرب.

 تبدو هذه الحجة قوية، لكن جزءا من ضعفها ألا أحد من مصلحته أن يجعل من الديمقراطية سمة من سمات الحكم الذاتي "الحقيقي"، فمصالح الدول العظمى في المنطقة لا تقبل أن تصير مرهونة باستحقاقات النخب الديمقراطية، والقناعات الاستراتيجية التي ترسخت في ذهن صناع القرار السياسي الغربي، أنه حيثما وجدت الثروة قل الطلب على الديمقراطية، كما أن نخب البوليساريو نفسها، تعودت على الريع، ولا يمكن أن تجعل من الطلب على الديمقراطية إلا رهانا تفاوضيا تكتيكيا لتحسين تموقعها داخل بنية السلطة الجديدة.

لحد الآن، تبقى حجة بعض إسلاميي العدالة والتنمية وما يعاكسها نظرية، في انتظار ما سيحصل في الاستحقاق الانتخابي المقبل، لكن مؤشرات النقاش حول القوانين الانتخابية، ورفض وزير الداخلية عبد الواحد لفتيت لكل تعديلات العدالة والتنمية، يبين بأن الدولة التي لا تستشعر أي ضغط عليها للتقدم في الديمقراطية، ترى في المدى القريب المرتبط بإجراء الانتخابات التشريعية المقبلة (صيف العام المقبل) أن الزمن السياسي للاستجابة للضغط الديمقراطي لا يزال ممتدا، وأن الانتخابات المقبلة، على الأقل، ستكون مستثناة من ذلك.

الكاريزما القيادية وأزمة الذات:

كما في الحالة المصرية والتونسية، أثيرت قضية تفريط العدالة والتنمية في تأمين التحالف مع القوى الديمقراطية، ورهانه على ترسيم العلاقة مع الدولة أو مع بعض مراكز القوة فيها الدولة، وأن ذلك انتهى بها إلى عزل نفسه عن الدعم الشعبي وتحويل حلفائها المفترضين إلى خصوم أو إلى حلفاء لبعض مراكز القوى في الدولة التي تريد الإطاحة بهم.

تبدو هذه الحجة قديمة، وتبدو مرتبطة بسياق ما قبل 2013 بالنسبة للحالة المصرية والتونسية، وبسياق ما قبل 2021 بالنسبة للحالة المغربية، في حين، يطرح الإشكال اليوم على ما بعد ذلك مما هو مرتبط بالمدى الزمني الذي تطلبه تجريب خيار استعادة بناء العدالة والتنمية، أي بعد المؤتمر الاستثنائي (ما بين 2021 و2025).

في تقديري الحجة التي ينبغي الاستثمار في توضيحها، ترتبط بمدى قدرة القيادة الكاريزما على التعاطي مع أسئلة المرحلة، خاصة وأن عقليتها السياسية، تكونت بين لحظتين: لحظة المواجهة، ولحظة تأصيل المشاركة السياسية والتكيف مع استحقاقاتها، في حين تتسم المرحلة الراهنة بتحديات جديدة، تتعلق باستعادة الشرعية لدى الجمهور، لا مواجهة السلطة القائمة، مما يستدعي معه إحداث تغيير جدري في تفكير الإسلاميين وأجيالهم القيادية، ونموذج الفكري والسياسي وشكل استيعابهم للوضع الدولي والإقليمي.

خاتمة:

يبدو أن جيل القيادة التاريخية، لا يزال ينظر إلى الواقع السياسي بالمنظار القديم، أي عقلية ما قبل 2011، ويرى بشكل مستنسخ أن وصفة انتصارات 2011 و2015 و2016 صالحة لإعادة التجريب، وتحاول أن تغطي على جوانب مهمة من الأزمة، منها أنها أضحت المشكلة الأساسية في أزمة الدولة مع الإسلاميين على الأقل كما من زاوية نظر الدولة، وأضحت عائقا أمام إمكان  استعادة وحدة التنظيم بحكم مسؤوليتها المباشرة في جزء من تشظيه خاصة على المستوى القيادي، ومانعا من عودة العلاقة بين الحركة والحزب إلى طبيعتها الاستراتيجية، بحكم أنها كانت سببا في تجاوز الصيغة التمايزية في تدبير العلاقة بين التنظيمين، وأن نقاط قوتها المتمثلة أساسا في تصليب مواقف الحزب السياسية، وتقوية الحضور الإعلامي والتواصلي للحزب، ليس كافيا لاستعادة المبادرة ما لم يتم التفكير بعمق في تجسير الانتقال إلى قيادة أخرى غير متلبسة بأزمات الماضي تساهم الكاريزما الحالية  بثقلها في إنجازه.
التعليقات (0)

خبر عاجل