مهما
كانت مواقفنا من الثورات العربية ومواقعنا في مساراتها ومآلاتها، فإننا لن نجانب
الصواب إذا قلنا إن الأغلب الأعم من النخب العربية "الحداثية" لم تكن
ظهيرا موثوقا لتلك الثورات، بل كانت مكوّنا رئيسا من "الكتلة
الانقلابية" التي عملت على جعل "زمن
الثورة" مجرد "فاصلة"
بين زمنيين استبداديين بإعادة أسوأ ما في المنظومات القديمة إلى مركز السلطة. ففي
تونس وغيرها أكدت الأحداث وجود علاقة عضوية -علاقة تعامد وظيفي أو تخادم- بين
النواة الصلبة للمنظومة القديمة وبين أهم مكوّنات ما يُسمّى بـ"العائلة
الديمقراطية". فبصرف النظر عن مرجعياتها الأيديولوجية المتناقضة تكتيكيا أو
سياقيا، أكدت تلك "العائلة" عدم وجود أي تناقض جوهري بينها وبين منظومات
سايكس-بيكو، أي منظومات الاستعمار غير المباشر أو الاستعمار الجديد، في مستوى الخيارات
الاستراتيجية التي تحدد مصالحها الداخلية وتحالفاتها الإقليمية.
رفعا
للبس، فإن هذا المقال ليس دفاعا عن خصوم "العائلة الديمقراطية" في تونس
ولا محاولة من طرف خفي لنفي مسؤوليتهم المؤكدة -مع غيرهم من الفاعلين الاجتماعيين-
عن إفشال الانتقال الديمقراطي. فقد أثبت مسار الانتقال الديمقراطي ومخرجاته -منذ
المرحلة التأسيسية- أن الإسلاميين الذين ارتضوا التحالف مع ورثة المنظومة القديمة
بشروط هؤلاء، لا يحملون مشروعا يتخارج مع مشروع منظومة الاستعمار غير المباشر
وأساطيره التأسيسية، كما أثبت أن سقفهم -بصرف النظر عن أوهام خصومهم وعن ادعاءاتهم
الذاتية- لا يتجاوز "الوظيفية" في تلك المنظومة ذاتها، أي لا يتجاوز الدور
المسنود للنخب "الحداثية" القائمة على إدارة التخلف والتبعية، وإعادة
إنتاج شروطهما الموضوعية والفكرية في إحدى الكيانات الوظيفية التي تُسمى مجازا
دولة وطنية أو دولة-أمّة.
الإسلامي الذي خرج من منطق "الاستعلاء الإيماني" والعمل السري إلى واقع العمل القانوني والشراكة "المؤقتة" مع "الحداثيين" تحت سقف "البورقيبية" باعتبارها أيديولوجيا النواة الصلبة للمنظومة القديمة، قد حوّل نفسه (وهو يبحث عن اعتراف مبدئي من لدن النخب الحداثية ليخرج من وضع "العضو الغريب" عن الجسد الوطني) إلى "فائض" يمكن الاستغناء عنه بعد تهرئة قاعدته الانتخابية وضرب ما يؤسس "شرعيته"
فالإسلامي
الذي خرج من منطق "الاستعلاء الإيماني" والعمل السري إلى واقع العمل
القانوني والشراكة "المؤقتة" مع "الحداثيين" تحت سقف
"البورقيبية" باعتبارها أيديولوجيا النواة الصلبة للمنظومة القديمة، قد
حوّل نفسه (وهو يبحث عن اعتراف مبدئي من لدن النخب الحداثية ليخرج من وضع
"العضو الغريب" عن الجسد الوطني) إلى "فائض" يمكن الاستغناء
عنه بعد تهرئة قاعدته الانتخابية وضرب ما يؤسس "شرعيته" كالمظلومية
وتمثيل المهمشين ماديا وأيديولوجيا وجهويا، وهو ما حصل بالتدريج وكان مستقره ما
نراه الآن-وهنا في مرحلة "تصحيح المسار".
إن
هذا المقال ليس محاسبة للنهضة على خيارها الاستراتيجي بالخروج من وضعية مواجهة
الدولة إلى وضعية الدخول فيها بشروط غير وطنية ولا علاقة لها بالانتظارات المشروعة
لعموم المواطنين، وليس المقال أيضا محاسبة لمكونات "العائلة
الديمقراطية" التي أفشلت ذلك الخيار وظلت تتعامل مع النهضويين بمنطق
الاستعلاء والإقصاء، وبمنطق "مقاومة الاختراق" لأجهزة الدولة وللمجتمع
المدني وللنقابات، بحكم أنّ "الإسلامي" -في صورته النمطية الموروثة عن
النظام القديم أمنيا وعن الاستشراق معرفيا- هو هوية لا ديمقراطية جوهريا، وهو "الخارج
المطلق" للمجموعة الوطنية أو ما يقابل "طائفة المنبوذين" التي لا
مكان لها في السلطة ولا في المعارضة. فغاية ما نطلب في هذا المقال هو أن نقدم بعض
العناصر التي قد تصلح للإجابة عن السؤال التالي: إذا ما فككنا خطابات
"الحداثيين" واستقرأنا أدوارهم المعروفة في إفشال الثورة التونسية
وشيطنة غيرها، فما هي "روح" الوجوه المخفية وراء أقنعة أغلب التنويريين
والتقدميين والديمقراطيين؟
للإجابة
عن هذا السؤال، سيكون علينا أن نستحضر معطى مركزيا سبق "الحدث الثوري"
وحدد منطق التعامل معه من منظور أغلب "الحداثيين". فالجذر العميق أو
المبدأ التوليدي لمجمل الأطروحات "الحداثية" -بأبعادها المعرفية
والمخيالية- قد تشكل وتحدد بنيويا قبل الثورة بمنطق التناقض الرئيس (مع الإسلاميين
أو ما يسمى بـ"الرجعية الدينية") والتناقض الثانوي (مع النظام أو ما
يسمى بـ"الرجعية البرجوازية"). فما يجمع كل الحداثيين -مهما اختلفوا
فيما بينهم أو في علاقتهم بالسلطة في لحطتيها الدستورية والتجمعية- هو مشروع
التحديث بمنطق "لائكي". وهو منطق يجد أصله في "الكمالية"
(نسبة إلى كمال أتاتورك) باعتبارها "النموذج المثالي" للبورقيبية ذاتها.
ولذلك فإن دخول بعض الإسلاميين بعد الثورة إلى الحقل السياسي والقانوني -وهيمنتهم
النسبية عليهم- قد وضع هذا النموذج في مواجهة خطر وجودي.
وعوض
مراجعة النموذج اللائكي وما يسنده من فلسفة "تنوير" استعمارية، اختارت
أغلب النخب الحداثية الإعراض عن هذا الممكن التاريخي، وتغذية الصراعات الهوياتية
وتجذير الانقسامات الاجتماعية على أسس أيديولوجية أساسها "العنصرية
الثقافية". وهو موقف لا يمكن رده إلى خطر حقيقي يهدد "النمط المجتمعي
التونسي"؛ بقدر ما يُرد إلى عجز العقل الحداثي عن إدارة اللحظة بعيدا عن منطق
"الأقلية الأيديولوجية" أو القوة النوعية المرتبطة بالدولة لا بالإرادة
الشعبية. فما يخيف أغلب الحداثيين ليس هو الإسلامي في ذاته؛ بقدر ما هو إمكانية أن
يصبح الشأن العام مسألة "عمومية"، أي مرتبطة بإرادة عموم المواطنين وليس
بإرادة النخب ومن يقف خلفها داخليا وخارجيا.
الثورة قد كشفت -بما لا يترك أي هامش للشك- أن الاحتكام للإرادة الشعبية والحرية والعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني ليست مطالب حقيقية للنخب، كما كشفت أنه لا مشكلة وجودية لأغلب النخب "الحداثية" مع النواة الصلبة للمنظومة، تلك النواة المسؤولة عن واقع التبعية والتخلف وعن تأبيد سياسات "الإذلال المزدوج" للدولة من الخارج وللمواطنين من الوكلاء المحليين لذلك الخارج
رغم
أن الصورة "المُؤمثلة" للحداثي التونسي تجعله مصداق أغلب القيم والمبادئ
الإنسانية سواء أكان في السلطة أم في المعارضة، فإنّ الواقع بعد الثورة قد أظهر
صورة مختلفة. وهي صورة تنقض الادعاءات الذاتية لأغلب النخب، سواء في علاقتها
"الخطابية" بالإرادة العامة أو في علاقتها "الواقعية" بالنواة
الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي. فقد أكدت مواقف أغلب الحداثيين أن الإرادة
الشعبية واحترام الاختلاف والثقافة الحوارية بعيدا عن أحادية الصوت وسلطة
"السوط" -أي ما يحول دون سياسات العنف الرمزي والمادي- ليست إلا
استعارات ميتة أو مجازات لا محصول تحتها. إنها "أقنعة" لذوات وظيفية
تخفي تحتها وجوها لا علاقة لها بالقيم ولا بالقضايا الكبيرة ولا بانتظارات
المهمشين والمقهورين. فالثورة قد كشفت -بما لا يترك أي هامش للشك- أن الاحتكام
للإرادة الشعبية والحرية والعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني ليست مطالب حقيقية
للنخب، كما كشفت أنه لا مشكلة وجودية لأغلب النخب "الحداثية" مع النواة
الصلبة للمنظومة، تلك النواة المسؤولة عن واقع التبعية والتخلف وعن تأبيد سياسات
"الإذلال المزدوج" للدولة من الخارج وللمواطنين من الوكلاء المحليين
لذلك الخارج.
بعيدا
عن المجاز وعن الإرهاب الفكري الذي تمارسه الثقافة المهيمنة، فإن علة "وظيفية"
أغلب الحداثيين تكمن في أن الحداثي الذي يُخيل إليه أن يمارس دور "الذكر
المهيمن" أو السيد في هندسة الفضاء العمومي؛ ليس في حقيقته إلا ذكرا تابعا أو
عبدا للنواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي سياسيا ولأسوأ مدارس الاستشراق
معرفيا. فالقيمة الاعتبارية للحداثي ورأسماله الرمزي والمادي مرتبط عضويا بالدولة
وبنواتها الصلبة. وللتطبيع مع هذا الوضع فإن أغلب الحداثيين لا يمارسون أي
"نقد مزدوج"، بل يحصرون تجليات حداثتهم في نقد خصوم "النمط
المجتمعي"، أي ضحايا سياسات التحديث القسري/الفوقي وما أنتجته الدولة
الريعية-الجهوية-الزبونية من مظاهر الحيف والتخلف والتبعية الاقتصادية والثقافية.
وهم يفعلون ذلك قبل الثورة وبعدها بأقنعة "التقدمية"
و"الاستقلالية" و"التحرر الوطني"، ولكن بروح الوظيفي ذي
الوجوه الثلاثة الملازمة لأية أقلية أيديولوجية: وريث الاستشراق الاستعماري
(الوكيل المحلي للسرديات الاستعمارية الجديدة) ومشرعن عنف الدولة (منظّر المقاربات
الأمنية-القضائية لحل النزاعات السياسية) وخادم البلوتوقراطية (المدافع الشرس عن
البنية الاقتصادية الطبقية للمنظومة الحاكمة تحت غطاء الدفاع عن "النمط
المجتمعي"). وإذا ما كانت هذه هي أقنعة "الحداثي" وروحه، فإن
مقاربتها تحليليا ونقديا لن تكتسب دلالتها الكاملة إلا بوضعها في إطار مقارنة
بأقنعة "الإسلامي" وروحه. وهو ما سنحاول التطرق إليه في مقال قادم بإذن
الله.
x.com/adel_arabi21