كتب

"حين يصير الإرهاب شرفًا".. قراءة غربية في الجذور الصهيونية لدولة الاحتلال

إذا كانت أفعال إسرائيل في غزة تنطبق عليها تعريف "الإرهاب" - وهو كذلك - فيجب تسميتها "إرهابًا" والرد عليها جماعيًا باسم "إرهاب".
إذا كانت أفعال إسرائيل في غزة تنطبق عليها تعريف "الإرهاب" - وهو كذلك - فيجب تسميتها "إرهابًا" والرد عليها جماعيًا باسم "إرهاب".
قامت إسرائيل على الإرهاب، وما زالت تعيش عليه حتى اليوم. ولا تزال الأفكار التي أسست لها المنظمات الصهيونية الأولى حاضرة وفاعلة، وتشكل جوهر فكر اليمين المتطرف الذي يقوده نتنياهو وبن غفير وسموتريش. وهذا يطرح أسئلة جوهرية لا يمكن تجاهلها: لماذا يُوصَف هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بأنه "إرهاب"، بينما لا يُوصَف الهجوم الإسرائيلي العنيف على قطاع غزة كردّ عليه بالإرهاب؟ ولماذا يُصنَّف قتل أو اختطاف أشخاص في ظروف معينة كأعمال إرهابية، بينما لا يُطلق الوصف نفسه على أفعال مماثلة ترتكبها أطراف أخرى؟ ولماذا تُدرج حماس كمنظمة إرهابية، بينما لا تُصنَّف إسرائيل دولةً إرهابية؟ ولماذا يُنظر إلى الجماعات الصهيونية المسلحة التي نشطت قبل قيام إسرائيل كمقاتلين من أجل الحرية، في حين تُوصَم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب؟!

وللإجابة على هذه الأسئلة نقدم في هذه الورقة قراءات أمريكية وصهيونية مهمة للإرهاب الصهيوني الذي قامت عليه إسرائيل وبه تستمر حتى اليوم، ونقدم أيضا في ضوء ذلك تقييما لما يجري في غزة. وستكون مصادرنا ما يلي:

1 ـ جون لويس بيك، الإرهاب اليهودي الصهيوني وتأسيس إسرائيل، رسالة ماجستير، كلية الدراسات العليا بالبحرية الأمريكية، 1977.

2 ـ جيمس لاري فيلدز، إرغون تسفاي لئومي: العنصر الإرهابي اليهودي في الصراع العربي الإسرائيلي، رسالة ماجستير، كلية القيادة والأركان بسلاح الجو الأمريكي، 1985.

3 ـ بروس هوفمان، الجنود المجهولون: النضال من أجل إسرائيل 1917 ـ 1947، راندم هاوس، 2015.

4 ـ ريتشارد جاكسون وماندي تيرنر، لماذا نحتاج إلى الحديث عن إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل في غزة؟، موقع سياق الأمن  Security Context، 23/12/2023.

5 ـ ليون روسيلسون، إسرائيل: ما هي؟ وهل لها الحق في الوجود؟، مجلة الوسط Medium، 4/5/2024.

ما هو الإرهاب؟

اتفق الباحثون في السنوات الأخيرة عمومًا على أن الإرهاب هو استخدام العنف لإثارة الخوف كوسيلة لتغيير السلوك السياسي، أو لفت الانتباه إلى قضية سياسية ملحة. وبالتالي، يُعد الإرهاب استراتيجية خلافية يمكن لأي طرف سياسي أن يستخدمها: أفرادًا أو جماعات أو دولًا. ومن المهم الإشارة إلى أن بعض الباحثين جادلوا بأن الدول لم ترتكب تاريخيًا أعمال إرهاب ضد المدنيين أكثر بكثير من الجماعات غير الحكومية فحسب، بل تُشكل الدول أيضًا أكبر مصدر للإرهاب نظرًا لقدرتها على ارتكاب عنف جماعي أكبر بكثير من أي طرف غير حكومي.

الإرهاب هو استخدام العنف لإثارة الخوف كوسيلة لتغيير السلوك السياسي، أو لفت الانتباه إلى قضية سياسية ملحة. وبالتالي، يُعد الإرهاب استراتيجية خلافية يمكن لأي طرف سياسي أن يستخدمها: أفرادًا أو جماعات أو دولًا.
أما على أرض الواقع، فقد استخدمت الحكومات والمنظمات التابعة لها، مثل الأمم المتحدة، مصطلح الإرهاب بطرق تُحدد الأفراد والجماعات غير الحكومية كجهات فاعلة رئيسية تستخدم الإرهاب. لذلك، اقتصرت جميع القوانين والاتفاقيات الدولية تقريبًا المصممة للتعامل مع الإرهاب على أفعال الأفراد والجماعات، واستثنت أفعال الدول من التصنيف أو المساءلة بموجب قوانين مكافحة الإرهاب. وقد سارت وسائل الإعلام على نفس النهج إلى حد كبير. وعندما يُستخدم مصطلح "الإرهاب" لشرح سلوك الدول، فإنه يقتصر عادة على "أعداء الغرب"، مثل إيران وكوبا وروسيا. ونادرًا ما يُطبق على سلوك الدول الغربية أو حلفائها المقربين. وتتجلى هذه المعايير المزدوجة عندما يتعلق الأمر بأفعال إسرائيل ضد الفلسطينيين.

نشأة الإرهاب الصهيوني في فلسطين

اليوم، يُلصق الإرهاب بالفلسطينيين؛ لكن قبل أكثر من قرن من الزمان، شهدت فلسطين في عام 1907 تأسيس أول منظمة صهيونية، هاشومير "الحراس"، وتحولت بعد الحرب العالمية الأولى إلى أكبر منظمة مقاتلة الهاغاناه "الدفاع"، التي كانت، كما يقول جيمس لاري فيلدز، معترفا بها ومسلحة من قبل سلطات الانتداب البريطاني. ثم تلتها عصابتيّ الإرغون تسفاي لئومي "المنظمة العسكرية الوطنية في أرض إسرائيل" في 1931 وشتيرن "المحاربون من أجل حرية إسرائيل" عام 1940.

وقد قامت هذه المنظمات مع تفاوت بينها على ثلاثة مبادئ هي: لجميع اليهود الحق في دخول فلسطين، الرد الفعال وحده كفيل بردع العرب، والقوة المسلحة اليهودية هي التي تضمن قيام الدولة اليهودية. وعلى يد هذه المنظمات، شهدت فلسطين إرهابا يهوديا خصوصا في الفترة من 1917 إلى 1947، تمثل في سلسلة من الاغتيالات والاختطاف والتفجيرات ارتكبها إرهابيون يهود ضد البريطانيين وضد العرب في نفس الوقت.

وخلال تلك الفترة، قُتل حوالي 140 جنديًا وشرطيًا بريطانيًا، إلى جانب العشرات من المارة المدنيين. وفي النهاية، حصل الإرهابيون على ما أرادوا، عندما أعلنت بريطانيا عن نيتها سحب جميع قواتها من فلسطين وترك مصيرها للأمم المتحدة. وكان اثنان من رؤساء وزراء إسرائيل، بيغن وشامير، زعيمين لعصابات إرهابية اركبت مجازر، ودمرت حوالي 400 قرية فلسطينية، وقامت بالتطهير العرقي لـ 750 ألفًا من الفلسطينيين، أصحاب الأرض، وهو تطهير عرقي استمر خلال حرب 1967 حتى يومنا هذا حيث تهدف إسرائيل إلى طرد مليوني فلسطيني من غزة إلى مصر.

وقد ارتكبت العصابات الصهيونية مجازر ضد الفلسطينيين من أشهرها مجزرة دير ياسين، حيث قُتل ما لا يقل عن 107 فلسطينياً، بينهم نساء وأطفال. وكانت المجزرة الأكثر فظاعة هي مذبحة الدوايمة في 29 أكتوبر 1948، حيث دخل جنود من الكتيبة 89 القرية، وقتلوا ما بين 80 و100 فلسطينياً. وقُتل الأطفال بكسر رؤوسهم بالعصي. وفي قرية صفصاف، سرد تقرير قُدّم إلى اللجنة السياسية لحزب مابام الجرائم التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون: "52 رجلاً قُيّدوا بحبل، وأُلقوا في بئر، وأطلقوا عليهم النار. وقُتل عشرة نساء. وحدثت ثلاث حالات اغتصاب".

وقد استمر هذا النوع من الإرهاب حتى بعد نشأة الدولة خصوصا في فترة السبعينيات وحتى الآن، وتمثل في جماعات كاهانا وجوش إيمونيم وفتيان التلال وغيرها من جماعات اليمين المتطرف الصهيوني الذي يمارس إرهابه تحت دعم وحماية الدولة في القدس الشرقية والضفة الغربية.

بريطانيا وزراعة الإرهاب الصهيوني في فلسطين

كان لبريطانيا مطامع استراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، ورأت أن فلسطين هي السبيل للسيطرة على هذه المنطقة من خلال خلق دولة صهيونية فيها تكون جدارا قويا أمام الأمال العربية في إنشاء دولة واحدة، يقول جون لويس بيك: "أراد البريطانيون أرض إسرائيل لأنها تقع في الطرف الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ولأنها ملتقى ثلاث قارات، ولأنها تُسيطر على أحد ضفاف قناة السويس، ولأنها تقع على الطريق المؤدي إلى الهند... ولأنها... محطة نهائية طبيعية لأنابيب النفط العراقي والفارسي. ستُعِد بريطانيا اليهود الذين يعانون من الاضطهاد في أوروبا بوطن في فلسطين. ليس فلسطين كوطن، بل وطن في فلسطين. ولكن ماذا لو أراد الكثير من اليهود الذهاب إلى فلسطين؟ وهكذا تطورت الخطة لديهم: سيثور العرب على "الغزو الأجنبي"؛ وسيظل اليهود أقلية مُهددة إلى الأبد. وسيحتاج كلٌّ منهما إلى الحماية من الآخر - بالحراب البريطانية".

الإرهاب الصهيوني وإذلال بريطانيا

على الرغم من كل ما قدمته بريطانيا من دعم للمشروع الصهيوني، والذي لولاه ما رأى هذا المشروع النور، وعلى الرغم من أنها دعمت الهاجاناه في بداية تأسيسها بالمال؛ إلا أن بريطانيا اكتوت بشدة من نار الإرهاب الصهيوني الذي كان يصر على تأكيد الإرادة الصهيونية على إنشاء إسرائيل. وقد أقنعت الحملة الإرهابية الصهيونية المتواصلة الصحافة والرأي العام البريطاني بأن إرادة اليهود في إنشاء دولة في فلسطين هي أعظم من إرادة بريطانيا في الاستمرار في حكمها. ومن المفارقات، أن ما مكّن حملة الإرغون الإرهابية هو ضبط النفس والاعتدال البريطاني. فرغم كل الاستفزازات، لم يرد البريطانيون على الإرهاب بعقوبات جماعية أو أعمال انتقامية مماثلة، وكان من أبرز أعمال العصابات الصهيونية ضد بريطانيا:

ـ اغتيال اللورد موين، أعلى مسؤول بريطاني في الشرق الأوسط، عام ١٩٤٤. وقد دبر هذه العملية رئيس الوزراء المستقبلي إسحاق شامير. استعادت الإرغون نشاطها بوصول مناحيم بيغن.

ـ تفجير فندق الملك داوود في يوليو ١٩٤٦، والذي أودى بحياة ٩١ شخصًا، والذي نفذته منظمة الأرجون بزعامة مناحم بيجين الذي شغل أيضا منصب رئيس وزراء إسرائيل فيما بعد، وهو مؤسس حزب الليكود في السعينيات.

راد البريطانيون أرض إسرائيل لأنها تقع في الطرف الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ولأنها ملتقى ثلاث قارات، ولأنها تُسيطر على أحد ضفاف قناة السويس، ولأنها تقع على الطريق المؤدي إلى الهند... ولأنها... محطة نهائية طبيعية لأنابيب النفط العراقي والفارسي.
عجزُ البريطانيين عن وقف الإرهابيين أصاب المسؤولين في لندن والقدس بالإحباط الشديد. فقد وقعوا في المأزق المألوف للمحتلين: كلما زاد قمعهم للإرهاب، زاد انحياز السكان المدنيين إلى الإرهابيين. ولم تكن منظمة الإرغون كبيرة أو شعبية؛ لكنها استطاعت مع ذلك أن تتصرف بحصانة، وأن ترد على كل تصعيد بريطاني برد فعل جديد: عندما بدأ البريطانيون بجلد الأسرى، اختطف أعضاء الإرغون بعض الجنود البريطانيين وجلدوهم؛ وعندما أعدم البريطانيون إرهابيين يهود، اغتال أعضاء الإرغون رجال شرطة بريطانيين. وبدلا من إرسال ما يكفي من الجنود أو الشرطة إلى فلسطين للسيطرة عليها بفعالية؛ اضطرت القوات البريطانية إلى التراجع خلف معسكرات شديدة الحراسة، أطلق عليها اليهود ساخرين اسم "بيفينغراد"، نسبةً إلى وزير الخارجية البريطاني آنذاك إرنست بيفين.

الإرهاب الصهيوني يهزم بريطانيا العظمى

لم يزد عدد القوات اليهودية، في أي وقت من الأوقات، عن عدد القوات البريطانية، أو حتى يقترب منه. كان لدى البريطانيين 100,000 جندي في فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية، إذا ما أُضيفت إليهم الشرطة والفيلق العربي الأردني الذي كان تحت سيطرتهم. أما الهاغاناه، ففي ذروة نشاطها، بلغ عدد قواتها 25,000 إلى 30,000 جندي يقاتلون ضد البريطانيين والعرب. وتفاوتت أعداد الإرغون من "أقل من 24 إلى أكثر من 30-40 إرهابيًا متفرغًا مدعومين بقوة احتياطية من بضع مئات من المقاتلين المتاحين لعمليات محددة، وكان جميعهم مدعومين ببضعة آلاف من المتعاطفين المتفانين الذين لم يكونوا مقاتلين. وبما أن الأعداد أعطت البريطانيين تفوقًا ضمنيًا؛ إلا أنه هناك عوامل أخرى ساهمت في انسحاب بريطانيا العظمى من فلسطين. فقد انتهت الحرب العالمية الثانية بتكلفة باهظة على بريطانيا، وقال تشرشل للرأي العام البريطاني: يُبعد مائة ألف إنجليزي عن ديارهم وأعمالهم بسبب حربٍ عبثيةٍ ودنيئةٍ مع اليهود. نحن نُعرّض أنفسنا للكراهية والسخرية من العالم بتكلفةٍ قدرها ثمانين مليون جنيه إسترليني.

إذن، رغم أن الحل النهائي لقضية فلسطين كان سياسيًا في معظمه، إلا أن التمرد اليهودي المتشدد هو الذي هيأ المناخ وحافظ على الضغط الذي أدى إلى هذا الحل السياسي. ومن المشكوك فيه للغاية ما إذا كانت دولة إسرائيل ستنشأ لولا أن التمرد حقق عددا من الإنجازات:

1 ـ أجبر البريطانيين على تحمل التزامات جسيمة في فلسطين لم يكونوا مستعدين للوفاء بها.

2 ـ سلط الضوء على فلسطين ومشاكلها المصاحبة، بما فيها وجود  يهود أوروبا في مخيمات النازحين.

3 ـ نشأ في اليشوف اليهودي تماسك وإحساس بالهدف، والذي ازداد بدلاً من أن يتناقص في ظل الجهود البريطانية لكسر التمرد.

4 ـ وفر اليشوف الحماية للإرهابيين. وفي هذا قال بيغن: "يُقاس عمق العمل السري المفتوح بمدى تعاطف شعبه مع النضال". لذا، لم تستطع بريطانيا اختراق اليشوف.

5 ـ خلق مناخًا من عدم اليقين والخوف، مما أضعف معنويات البريطانيين في فلسطين، ونال من عزيمتهم حتى في بريطانيا، بحيث أصبحت الحكومة البريطانية بحلول ١٩٤٧ مستعدة لقبول أي هروب لطيف،  أو غير لطيف، من وضع لا يُبشر إلا بمزيد من الإحراج.

لم تعمل المسارات التاريخية الثلاثة للهاغاناه والإرغون وشتيرن بشكل منفصل. كان لها نفس الأصل، ونفس السبب، ونفس النهاية. وبين البداية والنهاية، تقاطعت مساراتهم، وتشابكت، وانحرفت. ومع ذلك نجحوا في تحقيق أهدافهم. والتاريخ يميل إلى تفضيل المنتصر.

المنظمات الصهيونية واستغلال الرأي العام العالمي

نظرا لتعاطف الرأي العام الأوروبي والأمريكي مع المشروع الصهيوني، فإن بريطانيا لم تجد وسيلة لتدمير الحركة السرية الصهيونية إلا باستخدام القوة العسكرية ضد جميع السكان؛ ولكن على عكس الألمان، لم يكن بإمكان البريطانيين استخدام هذه الأساليب. ففي بريطانيا، كانت الكراهية العنيفة وحدها هي التي يمكن أن تتسامح مع العمل العنيف في فلسطين؛ لكن هذه الكراهية لم تكن موجودة. وسينظر الأوروبيون، الذين كانوا يتعافون من "كابوس الاحتلال الألماني"، إلى التجاوزات البريطانية في فلسطين على أنها "إعادة إنتاج لعمل هتلر".

كانت منظمة الإرغون تدرك تمامًا هذه الظاهرة في الرأي العام العالمي، إذ كانت فلسطين بيتًا زجاجيًا يراقبه العالم باهتمام. واكتشفت الحكومة البريطانية عام ١٩٤٥ أن سلوكها تجاه اليهود كان عاملًا مهمًا في المواقف والسياسات الأمريكية التي كانت حيوية لنهضة بريطانيا من ويلات الحرب. وقد عبر بيغن عن رؤية الأرغون فقال: "كانت أسلحتنا أسلحة هجومية؛ وكانت شفافية "الزجاج" درعًا دفاعيًا لنا".

إسرائيل ومحاولة تغيير الذاكرة

إسرائيل ليست الدولة الاستيطانية الوحيدة التي وُلدت في الخطيئة والدم؛ ولكنها قد تكون فريدة في جهودها المضنية لإنكار تاريخها، وإضفاء طابع أسطوري عليه، وترويج الأكاذيب عنه، مثل: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، "العرب هم الذين خرجوا دون إجبار بناء على أمر قادتهم"، "لا وجود لشعب فلسطيني مميز"، "الكتاب المقدس هو وصية لنا". وحاولت إسرائيل تبرير سرقتها للأراضي الفلسطينية ومواردها.

وأما ادعاؤهم بأن الأرض الفلسطينية كانت أرضا قاحلة وأنهم من جعلوها تزهر وتثمر، فالحقيقة عكس ذلك تمامًا. فقد أدخل المستوطنون الأوائل من جمعية الاستعمار اليهودي في فلسطين أشجار الكينا إلى فلسطين، مُبدئين بذلك عملية تدمير الموطن الأصلي. ففي وادي الحولة، على سبيل المثال، زرع المستوطنون أشجار الكينا لتجفيف الوادي، مما أثر سلبًا على التربة ودورة المياه والتنوع البيولوجي والحياة البرية في الوادي الذي ازدهر فيه المزارعون الفلسطينيون الأصليون لقرون. ومن ناحية أخرى، تعرضت أشجار الزيتون الفلسطينية الأصلية، التي تُعدّ ركيزة الاقتصاد الفلسطيني، لاستهداف متعمد من قِبل المستوطنين الإسرائيليين والجيش الإسرائيلي. وتشير التقديرات إلى أن إسرائيل اقتلعت ما يقرب من مليون شجرة زيتون منذ الاحتلال.

باختصار، تهدف الصهيونية إلى رمي اليهودي القديم في مزبلة التاريخ، واستبداله باليهودي الجديد الإسرائيلي القوي والشجاع الناطق بالعبرية الذي لن يتردد في تعذيب الأطفال وقتلهم.

إسرائيل وإرهاب الدولة

تُوصف حرب إسرائيل على غزة بأنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لكن يغيب عن هذا الوصف هل ينطبق تعريف "إرهاب الدولة" على أفعال إسرائيل. ففي خلال شهرين منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ألقت إسرائيل على غزة أكثر من 29,000 قنبلة جو-أرض، بما في ذلك مئات القنابل التي تزن 2000 رطل، وهو ما يعادل أكثر من قنبلتين نوويتين. وقتلت وجرحت آلاف المدنيين الفلسطينيين، 70% منهم نساء وأطفال. ونزح 1.9 مليون  يمثلون 80% من سكان غزة. ودُمر آلاف المساكن وأماكن التعليم والعبادة والبنية التحتية وجميع الخدمات الحيوية تقريبًا. وقُصفت مباني الأمم المتحدة والمستشفيات وغيرها من المناطق التي أُمر الناس باللجوء إليها بحثًا عن الأمان. وأُبيدت عائلات بأكملها. وأُعدم رجال عُزّل أمام عائلاتهم. ومنعت إسرائيل شاحنات المساعدات من دخول القطاع المحاصر، متسببةً عمدًا في مجاعة جماعية.

إسرائيل ليست الدولة الاستيطانية الوحيدة التي وُلدت في الخطيئة والدم؛ ولكنها قد تكون فريدة في جهودها المضنية لإنكار تاريخها، وإضفاء طابع أسطوري عليه، وترويج الأكاذيب عنه، مثل: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، "العرب هم الذين خرجوا دون إجبار بناء على أمر قادتهم"، "لا وجود لشعب فلسطيني مميز"، "الكتاب المقدس هو وصية لنا". وحاولت إسرائيل تبرير سرقتها للأراضي الفلسطينية ومواردها.
وقد أكد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أن الحملة العسكرية الإسرائيلية الحالية على غزة "تركز على الضرر لا على الدقة". وقال مصدر عسكري آخر: "عندما تُقتل طفلة في الثالثة من عمرها في منزل بغزة، فذلك لأن أحد أفراد الجيش قرر أن قتلها ليس بالأمر الجلل ـ بل هو ثمن يستحق الدفع... كل شيء متعمد. نحن نعلم تمامًا حجم الأضرار الجانبية في كل منزل". وصرّح مصدر في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية للصحفي الإسرائيلي يوفال أبراهام بأن إسرائيل تعلم أن هذه الاستراتيجية ستُعتبر إرهاب دولة. ولعل هذا هو السبب وراء بذل إسرائيل جهودًا حثيثة لإثبات "شرعية" جميع أهدافها، مثل محاولاتها إثبات أن حماس كانت تعمل من أنفاق تحت مستشفى الشفاء.

إن حقيقة أن أفعال المسؤولين الإسرائيليين ونواياهم المعلنة تتوافق تمامًا مع تعريف إرهاب الدولة، حتى مع تبرير إسرائيل لحملتها على أنها "مكافحة للإرهاب"، تُمثل نقطة توتر وتنافر واضحة في المناقشات الدولية حول هذا الوضع. ولا يكشف هذا عن تسليح اللغة فحسب، بل يكشف أيضًا عن نفاق القادة الغربيين الذين يدّعون التزامهم بمحاربة الإرهاب في كل مكان بالعالم.

تساؤلان مهمان

إن الإرهاب الصهيوني، إرهاب المنظمات أو إرهاب الدولة، يطرح سؤالان مهمان حول شرعية قيام إسرائيل وبقائها، وحول مدى مشروعية المقاومة ضد الاحتلال. والسؤال الأول هو للكاتب اليهودي "بروس هوفمان"، وأما السؤال الثاني فهو للكاتب اليهودي "ليون روسيلسون".

1 ـ السؤال الأول: هل كان إرهاب الإرغون وليحي مبرراً من الناحية الأخلاقية، لأنه في النهاية ساهم في إقامة دولة يهودية؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هي تداعيات هذا الحكم على ما يسمى بالإرهاب الفلسطيني اليوم، والذي يُصوَّر أيضًا على أنه كفاح مسلح ضد قوة احتلال، ويستخدم العديد من الأساليب التي ابتكرها بيغن؟ بل إن كتاب "الثورة" لبيغين والذي كان دستور عمله ضد الفلسطينيين والبريطانيين قد وُجد في مكتبة معسكر تدريب للقاعدة في أفغانستان، كما أن نفس الأساليب التي اتبعتها المنظمات الصهيونية اتبعتها أيضا المنظمات الفلسطينية في السبعينيات من قتل وخطف وتفجير وتدمير.

2 ـ السؤال الثاني: هل لدولة يهودية خالصة، قائمة على تهجير شعب آخر واضطهاده المستمر، الحق في الوجود؟ والإجابة، بكل وضوح هي: لا.

حان الوقت لمحاسبة إسرائيل وفضح ازدواجية المعايير

إن قدرة الحكومات على استبعاد أفعالها وأفعال حلفائها من تصنيف الإرهاب تعني أنها تستطيع الإفلات من العقاب على انتهاكات حقوق الإنسان والعنف الموجه ضد المدنيين على نطاق واسع. ومن الواضح أن الوقت قد حان لفضح هذا الازدواج في المعايير: إذا كانت أفعال إسرائيل في غزة تنطبق عليها تعريف "الإرهاب" - وهو كذلك - فيجب تسميتها "إرهابًا" والرد عليها جماعيًا باسم "إرهاب". ويبدو أن الإدانة، واللوم، والطرد الدبلوماسي، والمقاطعة الاقتصادية والعقوبات، وسحب الاستثمارات، وحظر الأسلحة والتكنولوجيا، وقوائم حظر الطيران للمسؤولين الإسرائيليين، وغيرها الكثير، كلها أمورٌ مُناسبةٌ كردٍّ على أعمال الإرهاب التي أودت بحياة عددٍ أكبر بكثير في غزة مقارنةً بهجمات 11 سبتمبر، والتي تُنفَّذ بشكلٍ مُمنهجٍ دون أي اعتبارٍ للقانون الدولي أو الرأي العام العالمي.

كما قامت إسرائيل من قبل ستقوم دولة فلسطين

يقول ليون روسيلسون: تُعرّف إسرائيل نفسها بأنها دولة يهودية؛ لكن الوصف الأدق لها هو أنها دولة صهيونية استعمارية استيطانية قائمة على الإرهاب. وكان اثنان من رؤساء وزرائها، بيغن وشامير، زعيمين لعصابات إرهابية. وهنا، وفي مواجهة هذا الإرهاب المتنوع والمتعدد الأشكال،  وأمام المقاومة الباسلة للشعب الفلسطيني، يحق لنا أن نسأل: هل لهذا الليل الصهيوني الطويل من آخر؟ وهل سينعم الشعب الفسلطيني بحريته؟ والإجابة نقرأها في الاستنتاج المهم الذي وصل إليه بروس هوفمان في نهاية كتابه "الجنود المجهولون" وهو: "ستنتصر حركة التحرر الوطني المُصمّمة دائمًا في النهاية، لأن إرادة الاحتلال في البقاء ستكون دائمًا أضعف من إرادة المقاومين في نيل الحرية. لذا، من المُفترض أن إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة ليست سوى مسألة وقت، وكل يوم تُقاوم فيه إسرائيل هذه النتيجة يعني المزيد من الأرواح التي تُزهق بلا طائل".
التعليقات (0)