في
لحظة يتداخل فيها الدم بالدبلوماسية، وتنهار فيها لغة البيانات أمام ضجيج
الطائرات، يجد الفلسطيني نفسه من جديد أمام مشهد يذكّره بهشاشة الوعود السياسية،
وبأن الضمانات الكبرى لا تعني شيئا حين يتعلق الأمر بقطاع
غزة؛ فالحرب التي لم
تتوقف عمليا، رغم الإعلانات المتكررة عن وقف إطلاق النار، تكشف عن مأزق سياسي
إقليمي ودولي يتجاوز غزة نفسها، ويضع العالم كله أمام اختبار حقيقي لإرادة الفعل
وقدرة الأطراف على الالتزام بما تعلن، وهو ما لم يحدث قط!!
الكيان
المحتل: نمط ثابت من تفريغ الاتفاقات
ليس جديدا أن يتعامل الكيان المحتل مع وقف إطلاق النار بوصفه مرحلة عسكرية، لا
سياسية؛ إذ تُستثمر كل هدنة في إعادة الانتشار، وجمع المعلومات، وتثبيت وقائع على
الأرض. وما يجري اليوم لا يخرج عن هذا النسق. دخول المساعدات الإنسانية، الذي يجب
أن يكون بندا محايدا في أي اتفاق، بات جزءا من لعبة الضغط والابتزاز، وهو ما جعل
الوضع الإنساني يتفاقم حتى لم تعد غزة ساحة حرب فحسب، بل ساحة انهيار شامل في
الخدمات الأساسية، من الغذاء إلى العلاج إلى المأوى.
الكيان المحتل، كما أثبتت التجارب السابقة، لا يرى في الاتفاقات إلا أدوات مرحلية، ولا يتعامل مع الالتزام بها كقيمة سياسية أو أخلاقية. وهنا يظهر الفارق بين ما يُكتب على الورق وما يجري على الأرض
إنّ الكيان
المحتل، كما أثبتت التجارب السابقة، لا يرى في الاتفاقات إلا أدوات مرحلية، ولا يتعامل
مع الالتزام بها كقيمة سياسية أو أخلاقية. وهنا يظهر الفارق بين ما يُكتب على
الورق وما يجري على الأرض. فوقف النار، كما تسميه واشنطن، لم يُترجم إلى تغيير
ملموس في سلوك جيش
الاحتلال، بل بات مجرّد إعلان لتهدئة إعلامية، ينهار أمام أول
قذيفة من قذائف النازية الراهنة!!
ضامنون
متآمرون أو عاجزون..
أما
واشنطن التي قدّمت نفسها بوصفها ضامنا رئيسيا لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات،
فتبدو اليوم أبعد ما تكون عن ممارسة أي ضغط فعلي. ولعلّ حسابات الانتخابات
الأمريكية، وتعقيدات المشهد الداخلي، وتسليح الكيان المحتل بلا سقف، جعلت الإدارة
الأمريكية تتراجع خطوة بعد خطوة عن ضماناتها. فواشنطن تريد تهدئة مدروسة وعلى
المقاس، لكنها تتجنب الدخول في صدام مباشر مع حكومة الكيان المحتل، رغم أنها الطرف
الوحيد القادر على إجبارها على الالتزام.
إنّ
هذا التناقض بين القدرة والنوايا، وبين التعهّد والتنفيذ، جعل ثقة الفلسطينيين بأي
ضمان دولي تتآكل بشكل شبه كامل. وما زاد الصورة التباسا هو صمت الشركاء العرب
الذين أعلنوا مشاركتهم في تقديم ضمانات مع الولايات المتحدة، لكنهم لم يقدّموا أي
خطوة توازي حجم الكارثة في غزة، وهو ما يؤكد تآمر العالم كله على غزة وفلسطين
بعامة!!
أما
الدول العربية التي انخرطت في مفاوضات وقف النار بوصفها أطرافا راعية، وهي
في الواقع، لا تمتلك الأدوات اللازمة لفرض التزامات على الكيان المحتل، ولا تستطع
التأثير في المسار الأمريكي. وقد اقتصر حضورها، في معظم الحالات، على البيان
والترتيب والوساطة. ومع استمرار التصعيد في غزة، ظهر بوضوح أنّ هذه الدول ليست طرفا
ضامنا بقدر ما هي وسيط لا يملك سوى الحراك الدبلوماسي، ومع أن رغبتها في التهدئة
واضحة، فإن افتقارها لأدوات الضغط الفعلية جعل دورها مهمشا أمام واقع يتشكل عسكريا
لا سياسيا.
مطالبات
حماس بوقف النار واحترام الضمانات
تصدر عن حركة حماس مطالبات يومية بوقف إطلاق النار، وهي تدرك، ربما أكثر من الجميع،
أن الضمانات غير قابلة للتنفيذ، وأن الأطراف التي تعلن التزامها بالمتابعة لا
تمتلك القدرة على فرض أي شيء على الكيان المحتل. هذا الإدراك يتجلى في خطاب الحركة
الذي يراوح بين المطالبة الإنسانية بوقف الحرب، وبين إدراك محدودية قدرة الوسطاء
على حماية أي اتفاق.
ومن
الواضح أن حماس، رغم خسائرها الكبيرة، لا تنظر إلى وقف النار بوصفه تنازلا سياسيا،
بل بوصفه ضرورة إنسانية بحتة في ظل كارثة غير مسبوقة، لكنها في الوقت ذاته تعرف أن
جزءا كبيرا من مصير التهدئة لا يملكه الفلسطينيون أنفسهم، بل تُحدده الأطراف
الخارجية.
سيناريوهات
الأيام والشهور القادمة
المشهد
القادم معقد، وبعيد عن الحسم. ويمكن تلخيص السيناريوهات المتوقعة بما يلي:
- استمرار العدوان منخفض الوتيرة في مناطق مختلفة من
القطاع، مع تبادل محدود للضربات، مع توسع حجم الكارثة الإنسانية بشكل قد يتسبب في
موجات نزوح جديدة.
- مفاوضات متقطعة، تُستأنف لتتوقف ثم تعود، دون سقف
زمني واضح، لا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، وارتفاع صوت الضغط
الدولي المتضامن مع غزة.
- احتمال توسع التوتر الإقليمي، خصوصا مع ازدياد النشاط
في جبهات أخرى.
هل
يمكن أن تستسلم حماس أو تسلّم سلاحها؟
تحوّلت الحرب في غزة من صراع عسكري إلى أزمة أخلاق عالمية؛ أزمة تُعيد مساءلة قيم العدالة، ودور القانون الدولي، ومعنى الإنسانية حين تحاصرها السياسة تارة والفاشية والعنصرية تارة أخرى
هذا
السؤال يتكرر، لكنه بعيد عن الواقع. فالحركة، من حيث بنيتها العقائدية والعسكرية،
لا ترى إمكانية للاستسلام، ولا تملك نموذجا سياسيا يسمح بتسليم السلاح. كل
المسارات تشير إلى احتمال ظهور ترتيبات أمنية وإدارية جديدة في غزة، من دون أن
يشمل ذلك إنهاء وجود حماس العسكري، فقد يؤول الأمر إلى إدارة مدنية جديدة تحت
إشراف فلسطيني-دولي، وقد تكون قوة أمنية مختلطة، لا تمسّ جوهر قوة المقاومة، مع
حضور دولي محدود في مناطق التماس. أما حل "تسليم السلاح"، فهو طرح أقرب
إلى الرغبة منه إلى الإمكانية.
تركيا
وقوات حفظ السلام: الدور الممكن والممنوع
دور
تركيا في أي قوة دولية محتملة داخل غزة حساس للغاية، فمن غير المرجح أن تقبل أنقرة
بدور رمزي بلا نفوذ، كما أنها في الوقت ذاته لا ترغب في التورط في صدام مباشر مع الكيان
المحتل داخل غزة، ما يعني أن الدور التركي، إن حصل، سيكون في إطار قوة متعددة
الجنسيات ذات طابع لوجستي أو إداري، أكثر منه دورا عسكريا مباشرا.
وفي
المحصلة، لا تبدو غزة مجرد ساحة حرب، بل امتحانا قاسيا لكل الأطراف: للكيان المحتل
الذي تكشفت نواياه الإجرامية للعالم كله، وللولايات المتحدة التي تفقد موقع
"الضامن" المتآمر مع قوات الاحتلال، للدول العربية التي تظهر هشاشة
نفوذها، وللفلسطينيين الذين يعيشون مأساة تجاوزت حدود الاحتمال.
لقد
تحوّلت الحرب في غزة من صراع عسكري إلى أزمة أخلاق عالمية؛ أزمة تُعيد مساءلة قيم
العدالة، ودور القانون الدولي، ومعنى الإنسانية حين تحاصرها السياسة تارة والفاشية
والعنصرية تارة أخرى..