قضايا وآراء

غزة بلا إيواء

محمد كرواوي
"احتلال لا يرى في المدنيين سوى عبء، ومجتمع دولي يكتفي بالتوصيف، ولا ينتقل إلى الفعل"- جيتي
"احتلال لا يرى في المدنيين سوى عبء، ومجتمع دولي يكتفي بالتوصيف، ولا ينتقل إلى الفعل"- جيتي
شارك الخبر
لم يكن المنخفض الجوي الذي ضرب قطاع غزة حدثا مناخيا عابرا، بل جاء ليكشف مرة أخرى طبيعة الصراع حين تتجرد السياسة من أي قناع، ويغدو الطقس نفسه جزءا من معادلة الحرب. ففي بقعة جغرافية محاصرة منذ سنوات، مدمرة البنية، مكسورة السقف، لا يكون المطر مجرد ظاهرة طبيعية، بل يتحول إلى عامل تهديد وجودي حين تغيب البيوت، وتنعدم وسائل الإيواء، ويترك مئات الآلاف من المدنيين في العراء، تحت السماء المفتوحة، بلا مأوى ولا غطاء ولا أمل قريب.

لقد كشفت موجة الأمطار والرياح العاتية في غزة فشلا مضاعفا، فشلا إنسانيا يتمثل في عجز المنظومة الدولية عن حماية المدنيين، وفشلا سياسيا وأخلاقيا لإسرائيل التي لم تف بالتزاماتها المعلنة بشأن توفير المساعدة والإيواء للمنكوبين، رغم أنها القوة القائمة بالاحتلال، ورغم أنها الطرف الذي تسبب بشكل مباشر في تدمير واسع النطاق طال المنازل والبنية التحتية، ودفع بالسكان إلى النزوح القسري داخل رقعة ضيقة لا تحتمل حياة طبيعية ولا حتى حياة مؤقتة.

إسرائيل، التي لم تتردد في تقديم نفسها للعالم باعتبارها دولة قانون ومؤسسات، وجدت نفسها أمام اختبار بسيط في شكله، بالغ في دلالته: هل تلتزم بتوفير الحد الأدنى من شروط الحياة لمن نزعت عنهم بيوتهم بفعل القصف؟ هل تترجم تعهداتها أمام الوسطاء والمنظمات الدولية إلى إجراءات ملموسة على الأرض؟ الجواب جاء مع أول منخفض جوي: لا.. لا خيام كافية، لا مراكز إيواء لائقة، لا بنية صحية، ولا حتى ممرات إنسانية مستقرة تضمن وصول المساعدات في وقتها.

المشهد في غزة خلال المنخفض الجوي لم يكن بحاجة إلى تقارير استخباراتية أو تحليلات معقدة؛ صور الأطفال تحت المطر، والنساء اللواتي يحاولن حماية ما تبقى من متاعهن، والمرضى في خيام لا تقي بردا ولا مطرا، كانت كافية لتفنيد الخطاب الإسرائيلي الرسمي. فحين تعجز دولة عن توفير خيمة لمن شردتهم، وتسوق في المقابل رواية أمنية لتبرير كل تأخير وكل تقصير، فإن المشكلة لا تعود تقنية ولا لوجستية، بل سياسية وأخلاقية في جوهرها.

لا يمكن فصل الإخفاق في الإيواء عن السياق الأشمل للعدوان، لأن من يهدم البيوت، ويمنع إعادة بنائها، ثم يعجز عن توفير خيام، لا يواجه أزمة طقس، بل يكرس سياسة تجويع وإرهاق بوسائل مختلفة

والأخطر من ذلك أن هذا الفشل لم يكن عرضيا، فإسرائيل، التي تتحكم في المعابر، وفي حركة الشاحنات، وفي نوعية المواد المسموح بدخولها، استخدمت المنخفض الجوي كامتداد غير معلن لسياسة الضغط. فالمنع، والتأخير، والتقنين، كلها أدوات إدارة أزمة لا تخلو من قصدية، هدفها إبقاء السكان في حالة هشاشة دائمة، وتحويل المعاناة الإنسانية إلى ورقة تفاوض غير معلنة، يدفع ثمنها المدنيون وحدهم.

هنا تطرح أسئلة لا يمكن القفز عليها: ما قيمة التعهدات الإسرائيلية أمام الوسطاء إذا كانت تسقط مع أول اختبار ميداني؟ وما جدوى البيانات الدولية التي تتحدث عن حماية المدنيين، إذا كانت عاجزة عن فرض توفير مأوى مؤقت في ظل كارثة إنسانية واضحة؟ ثم أي معنى للحديث عن التزامات قانونية، إذا كان الاحتلال يختار متى يلتزم ومتى يتنصل، دون أي كلفة سياسية حقيقية؟

إن المنخفض الجوي في غزة لم يكن مجرد فصل شتاء قاس، بل كان مرآة عاكسة لحقيقة الوضع: احتلال لا يرى في المدنيين سوى عبء، ومجتمع دولي يكتفي بالتوصيف، ولا ينتقل إلى الفعل، ووعود إسرائيلية تتبخر عند أول امتحان. وفي هذا السياق، لا يمكن فصل الإخفاق في الإيواء عن السياق الأشمل للعدوان، لأن من يهدم البيوت، ويمنع إعادة بنائها، ثم يعجز عن توفير خيام، لا يواجه أزمة طقس، بل يكرس سياسة تجويع وإرهاق بوسائل مختلفة.

المنخفض الجوي سيمر، كما تمر كل العواصف، لكن ما سيبقى هو السؤال الجوهري: هل يسمح العالم باستمرار تحويل الكوارث الطبيعية إلى أدوات ضغط سياسي؟ وهل تبقى غزة رهينة وعود لا تصمد أمام المطر؟ في الإجابة عن هذين السؤالين يتحدد ليس فقط مستقبل القطاع، بل مصداقية النظام الدولي برمته، حين يتعلق الأمر بحماية الإنسان لا بالشعارات.
التعليقات (0)