منذ
أيام كتب وزير التربية الأسبق السيد ناجي جلول تدوينة رافضةً لمبادرة سياسية
يقودها "الحزب الدستوري الحر"، وهو حزب تجمعي جديد تتزعّمه السيدة عبير
موسي المسجونة حاليا. وقد أُطلق على هذه المبادرة اسم "التزام وطني"، وكان
رفض السيد جلول لهذه المبادرة راجعا إلى أنه قد "طلّق الخردة الأيديولوجية من
زمان" ولذلك لن يضع يده "في يد استئصالي أو من يدعو إلى إلغاء
الآخر". وهو بذلك يحدد "جوهر" ما أسماه بـ"الخردة الأيديولوجية"
في نزعتها الاستئصالية الإلغائية.
وقد
سبق لنا أن فصّلنا القول في الاستراتيجيتين الاستئصاليتين -الاستئصال الصلب
والاستئصال الناعم- وأشرنا إلى أهم الفاعلين الجماعيين القائلين بهما بعد الثورة،
ومنهم صاحب المبادرة، وكذلك "حركة نداء
تونس" التي كان السيد جلول نفسه
من قياداتها الوطنية ثم أمينا عاما لأحد شقوق هذه الحركة (أي "شق المنستير"،
مع ما تحمله هذه التسمية من رمزيتين تاريخية وجهوية).
بصرف
النظر عن الردود المتباينة على موقف السيد ناجي جلول، وبصرف النظر عن مدى وفائه
بمقتضى التجاوز الجذري لما أسماه بـ"الخُردة الأيديولوجية"، أي جدّية
"المراجعات" الأيديولوجية التي منعته من الالتحاق بالمبادرة المذكورة
أعلاه، فإن ربط الدكتور ناجي لأزمة المعارضة بالانغلاق الأيديولوجي هو طرح مهم في
ذاته، ولكنه ربط يحتاج إلى تعميق قد لا يجد الدكتور نفسه فيه. فرفض الاستئصال
الصلب، أي تحويل الإسلاميين إلى ملف أمني-قضائي، لا يعني بالضرورة التحرر من مربع
الاستئصال الليّن، أي إقصاء الإسلاميين من مركز الحقل السياسي أو منعهم من الحكم
بمنطق التصدي ل"أخونة الدولة" وأسلمتها. وحتى إذا استطاع الدكتور ناجي
وغيره من أصحاب المراجعات الخروج من ربقة "الاستئصال" بشكليه،
لا يعني أنهم يؤمنون بتأسيس المشترك الوطني بعيدا عن الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة، أي عن البورقيبية التي لا يوجد إلى حد الآن أي خطاب ذي مرجعية "حداثية" يعتبرها "الخردة الأيديولوجية" الأَولى بالنقد والتجاوز قبل باقي "السرديات الكبرى"
فإن ذلك
لا يعني أنهم يؤمنون بتأسيس المشترك الوطني بعيدا عن الأساطير المؤسسة
للدولة-الأمة، أي عن
البورقيبية التي لا يوجد إلى حد الآن أي خطاب ذي مرجعية
"حداثية" يعتبرها "الخردة الأيديولوجية" الأَولى بالنقد
والتجاوز قبل باقي "السرديات الكبرى" التي نازعتها في المرحلة الدستورية
-أو نازعت وريثها التجمعي زمن المخلوع- ثم تحوّل أغلبها إلى أجسام زبونية-وظيفية
في خدمة "منظومة الاستعمار الجديد" ونواتها الجهوية-الريعية الصلبة.
رغم
"تقدّمية" موقف الدكتور ناجي جلول- بالمعنى المواطني للتقدمية وليس
بالمعنى اليساري المفوّت والمتعامد وظيفيا مع المنظومة في تكريس السلطوية
والاستئصال والتخلف- فإن التهافت يدخله من جهة كونه ظل أسير "الآثار" أو
"الاشتقاقات" المرتبطة بما أسماه بـ"الخردة الأيديولوجية"،
ولم يتعامل مع أصولها النظرية وفلسفاتها السياسية. فـ"الحزب الدستوري
الحر" رغم أصوله التجمعية المعروفة، يُصرّ على اكتساب شرعيته من
"البورقيبية" ومن المرحلة الدستورية، كما أن العديد من الشخصيات
المشاركة في هذه المبادرة ذوات أصول "ماركسية" تم تدجينها في مرحلة
لاحقة ضمن "اليسار الوظيفي".
ولا
شك عندنا في أن غياب العديد من مكونات اليسار الوظيفي عن هذه المبادرة لا يعني
اختلافهم عن المشاركين فيها من جهة اعتبار "البورقيبية" هي "الخطاب
الكبير"، على حد تعبير أحد علماء الاجتماع، أي الخطاب المركزي الذي تكتسب
سائر الخطابات المتنازعة شرعيتها بمقدار الاقتراب منه وتفقدها كلما ابتعدت عنه.
كما أنه لا شك عندنا في وجود فهم يوحّد بينهم جميعا من جهة التقابل بين الدولة
المدنية والدولة الدينية، وليس بين الدولة المدنية وبين الدولة الاستبدادية مهما
كان شكلها.
إن
الإشكال الحقيقي عند من يرفضون الاستئصال والإلغاء -مثل الدكتور جلول- هو أنهم، رغم
تقدمية موقفهم مقارنة باستراتيجيتي الاستئصال الصلب والناعم، إنما يفعلون ذلك
بطريقة "شرطية". فمقابل هذا "الاعتراف" ينبغي على الإسلاميين
القبول اللامشروط بالأساطير المؤسسة للدولة-الأمة، وينبغي عليهم "العودة إلى
السياق الوطني"، كما قال السيد محسن مرزوق في سياق آخر. ولا يعني ذلك
"السياق" إلا أن يتحولوا إلى مكوّن وظيفي في منظومة الاستعمار الداخلي
ونواتها الجهوية-الريعية-الأمنية، فإن هم استعصموا بمرجعيتهم أو نادوا بتعديل جزئي
في آليات توزيع الثروة، أو أصروا على أن يحكموا تجسيدا لإرادة أغلبية الناخبين،
صاروا عدوا للنمط المجتمعي التونسي ومشاريعَ لتدمير "النسيج المجتمعي"
وتهديدا وجوديا للمكاسب الفردية والجماعية لعموم التونسيين، وإذا ما خضعوا
للابتزاز النسقي المسلّط عليهم من ورثة التجمع وحلفائه في اليسار الوظيفي صاروا
"تجمّعا بلحية". أمّا خصومهم، فإن سيطرتهم على ركائز السلطة تجعل من غير
المفكر فيه -رغم وظيفيّتهم غير المشكوك فيها- أن يقال عن أحدهم "تجمعي بصورة
تشي غيفارا" أو "تجمعي تحت صورة جمال عبد الناصر".
وصف السرديات الحداثوية بـ"الخردة الأيديولوجية" لا يعني أن ما يُسمى بـ"الإسلام السياسي" خارج عن هذا الحد. فالخردة الأيديولوجية عندنا ليست هي فقط تلك الخطابات الاستئصالية الإلغائية، بل هي كل الخطابات التي تقبل بأن تكون في خدمة منظومة الاستعمار الجديد أو غير المباشر بدعوى "الوحدة الوطنية" أو "التنازلات المؤلمة" أو "الإكراهات" واختلال موازين القوى
لعلّ
قوة "الخردة الأيديولوجية" بمختلف سردياتها الكبرى، هي في قدرتها على
التخفي والتحوّل وإخفاء أصولها أو فرضياتها السردية، بل في قدرتها على التموقع
"البرزخي" حيث تكون لها "امتيازات السلطة وشرف المعارضة".
فالبورقيبية التي أسست دولة جهوية-ريعية-زبونية بعقل أمني أصبحت ترادف
"الوطنية"، والسرديات اليسارية التي ليس في تاريخها وأدبياتها ومواقفها
ما يشير إلى "الديمقراطية" داخلها أو في علاقتها بخصومها أصبحت "العائلة
الديمقراطية". وقد لا نجد مثالا لمن جمع بين أمراض السرديتين وادعاءاتهما
الذاتية أفضل ممّا يسمى بـ"العائلة الوطنية الديمقراطية "المعروفة
اختصارا بـ"الوطد"، ومن بعدها أغلب الحركات المنتسبة إلى القومية
العربية، بفرعيها الناصري والبعثي.
فهذه السرديات الكبرى التي عارضت البورقيبية
سواء في توجهاتها الاقتصادية وفي علاقة التبعية التي تربطها بالغرب أو في مفهوم
الدولة-الأمة ذاته، قد أصبحت -منذ عهد المخلوع- حليفا موضوعيا للنظام وخادما لنواته
الصلبة وأحد أعمدته الأيديولوجية في الحزب الحاكم وفي المعارضة الكرتونية، وفي ما
يُسمّى بـ"المجتمع المدني" وكذلك في النقابات والإعلام. ولم تكن
"الثورة" أو تأسيس "حركة نداء تونس" أو "تصحيح
المسار" إلا مناسبة لتأكيد علاقة "التخادم" بين النواة الصلبة
للحكم وبين أذرعها الوظيفية، أو الخردة الأيديولوجية لدولة الاستعمار الجديد.
إنّ
وصف السرديات الحداثوية بـ"الخردة الأيديولوجية" لا يعني أن ما يُسمى بـ"الإسلام
السياسي" خارج عن هذا الحد. فالخردة الأيديولوجية عندنا ليست هي فقط تلك
الخطابات الاستئصالية الإلغائية، بل هي كل الخطابات التي تقبل بأن تكون في خدمة
منظومة الاستعمار الجديد أو غير المباشر بدعوى "الوحدة الوطنية" أو
"التنازلات المؤلمة" أو "الإكراهات" واختلال موازين القوى.
فحركة النهضة عندما اختارت أن "تتوافق" مع ورثة المنظومة القديمة
بشروطهم، وعندما قبلت أن يكون معيار الديمقراطية ومرجع الحُكم فيها من لا يشهد لهم
شاهد بالديمقراطية (أي ما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية")، وعندما تهيّبت
مراجعة الدستور الحقيقي لتونس (أي مجلة الأحوال الشخصية والمجلات التجارية، خاصة
مجلة المحروقات)، وعندما أعرضت عن المساءلة النقدية للبورقيبية ولدور "اليسار
الوظيفي" في تكريس دولة الاستبداد والفساد، فإنها بتلك الخيارات قد تحوّلت
إلى "خردة أيديولوجية" غير نافعة من جهتين: من جهة التعبير عن إرادة
ناخبيها وعن انتظارات التونسيين (القوة الشعبية)، وبالتالي من جهة احتياج النواة
الصلبة للحكم إليها (الوظيفة السياسية). وهو ما يعني أنّ ما يسمى بالصراع السياسي
في تونس ليس في جوهره إلا صراعا بين أشكال من الخردة الأيديولوجية المتنافسة على
خدمة الخردة الأيديولوجية الأهم: الدولة-الأمة بروح سايكس-بيكو وبخطاب
"البورقيبية" وبهيمنة النواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخي.
x.com/adel_arabi21